خليفة الخرافي: سفينة شراعية بسيطة وبحارتها يواجهون أهوال البحر

لا يقدر على خوض عباب البحر، متحدياً أهواله، الا اهل العزيمة والقوة والإيمان، كما ليس بقادر على تحمل مشقة العيش في الصحراء الا القوي الصبور الجسور. لذا، فإن تكريم الرعيل الأول واجب على الجهد الذي بذلوه في ظروف معيشية غاية في الصعوبة، «تعرضوا لأمراض داهمتهم (الجدري والطاعون)، وتضحيات في حروب خاضوها دفاعاً عن الكويت واستشهاد بعضهم فيها، مثل عمي عبدالمحسن حسين الخرافي، الذي استشهد في معركة الصريف، وبتآزر أهل الكويت شيدت اسوارها الثلاثة»، لهذا من الواجب التركيز على تلك المرحلة المهمة وتسليط الضوء عليها ليتعلم شبابنا العبر.

ومثلما اعتمادنا الوحيد حالياً على البترول، كان المصدر الوحيد للدخل لآبائنا واجدادنا قبل النفط هو البحر من خلال اسطول سفن كبير يقارب ألف سفينة، بعضها للغوص بحثاً عن اللؤلؤ، والبعض الآخر لنقل تمور البصرة الى سواحل الهند وافريقيا واعادة التصدير بنقل الاقمشة والاغذية والاخشاب والتوابل لموانئ الخليج، ويعتمدون ع‍لى البحر في الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وينقلون البضائع بين موانئ سواحل الهند لتجار هنود لثقتهم في بحرية الكويت وامانتهم ونولهم اسعار الشحن اغلى من غيرهم بمقدار 25%، ويعتمد أهل الكويت على حرفة صناعة السفن الخشبية التي تحتاج لفنيين مهرة، كما يعتمدون على البحر في تقطيع الصخر (القصّار) على ساحل البحر في منطقة عشريج لبناء المساكن، وهي مهنة شاقة جداً في زمهرير الشتاء، وقيظ الصيف، كما يعتمدون على البحر في صيد السمك.

يا لها من حياة صعبة شاقة مضنية، تخيل انك تقضي تسعة اشهر من حياتك في البحر على سفينة من خشب لا تتوافر فيها اي من وسائل الراحة أو السلامة أو الامان، انما يمضون معظم الوقت على سطح السفينة بين رياح الشتاء الباردة والأمواج القوية، وفي الصيف تحت حرارة الشمس الحارقة، تتلاطم سفينتهم الخشبية البسيطة بالامواج العالية من كل صوب يوجهها النوخذة (القبطان) بتغيير جهة «الشراع» وهو قطعة قماش يواجهون بها اعتى العواصف دون اجهزة حديثة تحدد لهم مواقعهم انما يعتمدون على الفلك والنجوم. إنها حياة شاقة «كسيفة» مزرية، الأكل محدود في السفينة ومتواضع جداً: تمر قديم ورز، واذا حالفهم الحظ وصادوا سمكة فرحوا بها فرحاً كبيراً.

اما رواتبهم فهي زهيدة جداً، والدخل يوزع بأنصبة واسهم يطلق عليها قلاطة، يجمعون ريع النول (ايراد شحن السفينة للبضائع يذهب نصفه للسفينة ومالكها والباقي حصص بين جميع العاملين فيها ويعتمد على الريع) والمحظوظ منهم لا يزيد دخله على 300 روبية تساوي ما يعادل 22 ديناراً لفترة تسعة اشهر «الناس كانوا قنوعين واحتياجاتهم بسيطة». وتبقى للبحارة في سفرتهم الطويلة ذكرى الكويت والحنين للأحبة والاهل، الذين ينتظرونهم على احر من الجمر، فعوائلهم من ابنائهم ونسائهم خائفون وقلقون عليهم من غرقهم في البحر، يدعون لهم ليلاً ونهاراً بأن يحفظهم الله، فهم تحت رحمة رب العالمين، حيث تكثر حوادث غرق عدد كبير من السفن الكويتية، فالبحر الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود.

وبعد فترة زمنية بسيطة من رجوع بحارتنا من رحلة السفر لسواحل الهند يرتاحون في وطنهم اياماً معدودات يلتقطون فيها انفاسهم من تعب السفر ليتجهزوا لرحلة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ في ظروف معيشية بائسة دون اي معدات تعينهم على التنفس وهم في اعماق تصل إلى 75 قدماً لا يعين الغواص سوى الله وسيب (رجل يسحب الغواص بحبل) والسيب قوي نشط متيقظ لسحبة الغواص لينتشله سريعاً قبل ان ينقطع نفسه. البحث عن اللؤلؤ مخيف وخطر في بيئة معيشية شاقة جداً، فعلى الغواص ألا يأكل من الصباح الى المغرب سوى تميرات معدودات وماء لتتحمل معدته ضغط الاعماق، وبعد ان يجمع البحارة محصول ما جنوه من لؤلؤ يتم بيعه لطواويش (تجار اللؤلؤ) الذين يبيعونه لتجار المجوهرات وهؤلاء يبيعونه لحسان وثريات لندن وباريس، فلؤلؤ هيرات الكويت ليس لنساء الكويت.

ويصف رحلة غوص شاقة الشاعر المرحوم محمد الفايز بالتالي:

«اركبت مثلي «البوم» و«السنبوك» و«الشوعي» الكبير ارفعت اشرعة امام الريح في الليل الضرير، هل ذقت زادي في المساء على حصير؟

من نخلة ماتت وما مات العذاب بقلبي الدامي الكسير

اسمعت صوت «دجاجة» الأعماق تبحث عن غذاء؟

هل طاردتك «اللخمة» السوداء و«الدول» العنيد؟

وهل انزويت وراء هاتيك الصخور؟

في القاع و«الرماي» خلفك كالخفير

يترصد الغواص. هل ذقت العذاب؟

مثلي وصارعت العباب

امسكت مفلقة البحار؟

في الفجر مرتجفاً لتكتمل القلادة

في عنق جارية تنام على وسادة».

***

وكان أهل الكويت يتاجرون مع اهل الشام براً بالاسلحة والخيل، كما كان شيوخ الكويت وتجارها يملكون مقاطعات كبيرة لمزارع النخيل في ابو الخصيب والبصرة لتصديرها بالسفن الكويتية لسواحل الهند وافريقيا.

***

الكل يتعجب، كيف لاناس وفدوا الى الكويت من بلدان مجاورة لا يملكون شروى نقير، فأصبحوا بجدهم ومثابرتهم وامانتهم واخلاصهم في العمل وجرأتهم تجاراً كباراً يملكون اساطيل من السفن، يا لهم من رجال عظام!

***

ومع مشقة البحث عن لقمة العيش الا ان اهل الكويت حرصوا على تعليم ابنائهم اللغات الاجنبية، ففي بداية القرن العشرين، ازدادت رغبة شباب الكويت في تلك الحقبة للتنور والمعرفة والانفتاح، من خلال دراسة اللغة الانكليزية بالانضمام الى المدرسة الارسالية الاميركية بإدارة القس كالفرلي ويعاونه جرجس سلو 1916م، وهي اول مدرسة لتعليم اللغة الانكليزية وبعض مبادئ الحساب.

أسماء التلاميذ:

يوسف الفوزان ـ عيسى بن عبدالجادر ـ سيد عبدالقادر السيد محمد الرفاعي ـ سيد رجب سيد عبدالله الرفاعي ـ ماجد الشاهين ـ سيد عبدالعزيز سيد عبدالله الرفاعي ـ عبدالعزيز الحميضي ـ الشيخ صباح الناصر ـ خالد سليمان العدساني ـ حمد صالح الحميضي ـ سليمان العدساني ـ عبدالله بن سدحان.

وفي عام 1930 كان الطلبة الذين «يدرسون في مدرسة لتعليم اللغة الانكليزية» يشرف عليها ويديرها المعلم اسماعيل كدو، والطلبة كانوا كلاً من: حبيب يعقوب شماس ـ عبدالمجيد محمود بوشهري ـ محمد زيد السرحان ـ يوسف عبداللطيف العبدالرزاق ـ عبدالله ملا صالح ـ محمد زيد بودي ـ علي ابل ـ عبدالحسين معرفي ـ عيسى عبداللطيف العبدالجليل ـ يوسف محمد ابو حسن ـ ابراهيم عبدالعزيز العبدالرزاق ـ عبداللطيف صالح العثمان ـ عبدالله ابراهيم العدساني ـ سعيد سعود سليمان ـ عبدالرحمن السيد عبدالوهاب الطبطبائي ـ سامي سلطان العيسى ــ بدر السيد عبدالوهاب.

كما كان اهل الكويت يحرصون على متابعة النشرات الادبية والثقافية والاطلاع عليها بالانضمام للنادي الادبي الذي كان يرأسه المرحوم الشيخ عبدالله الجابر الصباح، وكان النادي مشتركا بالعديد من المجلات والجرائد المصرية التي يحضرونها من الهند.

كما بدأت المدارس الاهلية بتعليم البنات في تلك الفترة، لا بل تغرب طلبة العلم لينهلوا من العلوم من مراكز علمية في دول المنطقة القريبة.

***

للاسف لا احد يذكر ماضي الكويت الذي بناه الاجداد بالصبر والامانة والشرف والجد والاجتهاد، فقد كانوا يتصفون بكل معاني الرجولة والشهامة والمروءة والوفاء والطيبة والجرأة والشجاعة ليتعلم شبابنا اليوم العبر.

***

ما جعلني اكتب هذا المقال هو للمقارنة، ولأشرح ما عاناه اهل الكويت في مرحلة ما قبل النفط من المشقة والصعاب، بينما حاليا اصبحنا مجتمعات استهلاكية، وابناؤنا مرفهون متنعمون يجرون وراء احدث الماركات من سيارات وملابس بسبب دخل البترول وتوزيع الثروة على الشعب، لو قارنا بين شباب ما قبل النفط الذين ركبوا السفن في عمر 15 عاما وشباب اليوم المرفهين، لهذا نحذر وننبه بان النعمة زوالة ولا تدوم ونحن نعتمد على دخل البترول الذي سينضب بعد فترة، وهناك تركيز من الدول المتطورة على الطاقة البديلة (الرياح والشمس والهيدروجين والنفط الحجري) فقد يهوي بعدها سعر برميل النفط الى الحضيض.

***

● فاتني في مقال الجمعة الفائت ان اشيد بمركز الكويت للعمل التطوعي الذي اشرف على الاحتفال في ساحة كشك مبارك والمنطقة المحيطة بها، وكذلك فريق الموروث الكويتي الذي اشرف على تجهيز وافتتاح وادارة كشك الشيخ مبارك الصباح، فلهم كل التقدير والشكر على هذا المجهود الطيب.

خليفة مساعد الخرافي

kalkharafi@gmail.com

kalkharafi@
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.